خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 3 من شوال 1445هـ - الموافق 12 / 4 / 2024م
]وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ نَفْسٍ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هَدَى نُفُوسَ الْخَلِيقَةِ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَصَيَّرَ الْفَلَاحَ لِمَنْ زَكَّاهَا وَالْخَيْبَةَ لِمَنْ دَسَّاهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَأَتْقَاهَا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ سَارَعُوا إِلَى الْجَنَّةِ لِيَنَالُوا جَنَاهَا، وَحَذِرُوا النَّارَ لِيَتَّقُوا حَرَّهَا وَلَظَاهَا.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ - أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ ] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ [الطلاق:2-3].
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ خَلَقَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ وَأَعَدَّهُمْ لِلْقِيَامِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَدَّهُمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْإِمْكَانَاتِ الْجَسَدِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلَالِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الَّتِي تُوَضِّحُ الْأَحْكَامَ فَتَنْهَى عَنِ الْحَرَامِ وَتَأْمُرُ بِالْحَلَالِ، وَتَرْسُمُ لَهُمُ الْمَنْهَجَ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَآثَارِهِمَا فِي الْمَصِيرِ وَالْمَآلِ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن[ [البلد:10]. أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ؛ بِمَا أَوْدَعْنَا فِيهِ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا وَأَنْزَلْنَا بِهِ كُتُـبَنَا.
وَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَجَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَهْلِينَ، فَوَعَدَ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْخَيْرِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ تَرَدَّى فِي طَرِيقِ الشَّرِّ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ وَالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، ] فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ [البقرة: 38-39 ]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَقَالَتِ النَّارُ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، فَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أَنْتَقِمُ بِكِ مِمَّنْ شِئْتُ، وَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ شِئْتُ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ رَبَّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ وَضَعَ الطَّرِيقَيْنِ – طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ- أَمَامَنَا، وَجَعَلَ لِكُلِّ طَرِيقٍ مِنْهُمَا أَسْبَابًا تُوصِلُ إِلَيْهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَبْوَابًا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَطَرِيقُ النَّارِ مَحْجُوبٌ بِالشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَطَرِيقُ الْجَنَّةِ مَحْجُوبٌ بِالْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ وَالْمَشَقَّاتِ، فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ وَصَلَ إِلَى الْمَحْجُوبِ ؛ وَإِنَّ هَتْكَ حِجَابِ الْجَنَّةِ بِاقْتِحَامِ الْمَشَقَّاتِ، وَهَتْكَ حِجَابِ النَّارِ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» [أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ].
وَمِنْ عَظِيمِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ فِي هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ طَرِيقَ النَّارِ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ لَذِيذٌ مُمْتِعٌ، وَمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَتَسْتَمْتِعُ؛ فَفِيهِ الِاسْتِجَابَةُ لِلشَّهْوَةِ وَلَذَّتِهَا، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْغُوبَاتِ وَحَلَاوَتِهَا، وَالنَّظَرُ إِلَى الْجَمَالِ وَمَفَاتِنِهِ، وَالْحُصُولُ عَلَى الْمَالِ مِنْ شَتَّى مَوَاطِنِهِ، دُونَمَا نَظَرٍ إِلَى أَخْذِهِ مِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ، وَفِيهِ الِانْطِلَاقُ وَالتَّحَرُّرُ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا يُرَامُ، وَالنُّفُوسُ تَسْتَخِفُّ الِانْفِلَاتَ وَالِانْطِلَاقَ، وَتَسْتَثْقِلُ الْقُيُودَ وَالْمَنْعَ وَالْوَثَاقَ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]. وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: جَعَلَ اللهُ طَرِيقَ الْجَنَّةِ يَغْلِبُ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ، وَالْحُدُودُ وَالْقُيُودُ وَالنَّصَبُ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ وَلَذَّاتِهَا، وَمُجَانَبَةُ الْأَهْوَاءِ وَشَهَوَاتِهَا، وَفِيهَا تَطْهِيرُ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتُهَا، وَخَلَاصُهَا مِنَ الْبَوَارِ وَالْخُسْرَانِ وَتَنْجِيَتُهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ تَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ، وَمُكَابَدَةِ حُظُوظِ النَّفْسِ وَالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ؛ ] وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[ [الشمس:7-10]. وَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَـتَّالُ
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ مَحْفُوفًا بِالْمَكَارِهِ وَالْمَشَقَّاتِ، وَطَرِيقُ النَّارِ مَحْفُوفًا بِالشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ؛ كَانَ الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ أَقْوَى مِنْ دَاعِي الْخَيْرِ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي طَرِيقِ الشَّرِّ مُوَافَقَةً لِلنَّفْسِ فِي نَزَعَاتِهَا، وَفِي طَرِيقِ الْخَيْرِ مُخَالَفَةً لَهَا فِي غَايَاتِهَا؛ وَلِذَا كَانَ دُعَاةُ الشَّرِّ لَا يَبْذُلُونَ جُهْدًا كَبِيرًا فِي دَعْوَتِهِمُ الْخَلْقَ إِلَى الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، بِخِلَافِ دُعَاةِ الْخَيْرِ وَالرَّشَادِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ جُهُودًا مُضْنِيَةً فِي دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ؛ إِذْ دَاعِي الشَّرِّ لَدَيْهِ كُلُّ مَا تَتَمَنَّى النَّفْسُ وَتَهْوَى؛ مِنَ الْمُتَعِ الْمُشْتَهَاةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُبْتَغَاةِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ مُتْعَةُ الْعَيْنِ وَالْآذَانِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ وَالْجَسَدِ بِلَا حِرْمَانٍ، وَالنَّفْسُ تُؤْثِرُ الْعَاجِلَ عَلَى الْآجِلِ، وَتَسْتَهْوِي الْمَوْجُودَ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَهَذَا فِيهِ ثِقَلٌ عَلَى النُّفُوسِ وَمُحَارَبَةٌ لِمُيُولِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: ]إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا[ [المزمل:5]؛ فَالتَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّفْسَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَالدِّينُ يَضْبِطُ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ قَيْدٌ يَفْهَمُهُ الْعُقَلَاءُ وَيَتَجَاهَلُهُ السُّفَهَاءُ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ بِلَا قُيُودٍ هِيَ لِلْمَجَانِينِ لَا لِلْعَاقِلِينَ، وَهِيَ تَضَعُ نِهَايَةً لِحُرِّيَّتِكَ حَيْثُ تَبْدَأُ حُرِّيَّةُ غَيْرِكَ مِنَ الْآدَمِيِّينَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ النَّفْسَ فَوْقَ مَا تُطِيقُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ: ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة:286]، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي الدِّينِ مِنْ ضِيقٍ وَلَا عَنَتٍ بَلْ جَعَلَ فِيهِ سَعَةً وَيُسْرًا، ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ [الحج:78]، وَالشَّرِيعَةُ سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَلَكِنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ قَدْ تَتَوَهَّمُ التَّضْيِيقَ وَالْمَشَقَّةَ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُ هَوَاهَا، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى مَا يَعْقُبُ اللَّذَّةَ مِنْ أَلَمٍ فِي الدُّنْيَا وَخُسْرَانٍ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا تَتَمَعَّنُ فِيمَا يُدْرِكُهُ الطَّائِعُ مِنْ لَذَّةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَفَوْزٍ وَنَعِيمٍ فِي الْأُخْرَى. ]فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[ [النازعات: 37 -41].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الدِّينِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ:
إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي وَحْيِهِ؛ فَقَدْ نَصَبَ لَهُمَا عَلَامَاتٍ، وَجَعَلَ لِكُلِّ طَرِيقٍ دُعَاةً يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْهِ، فَنَصَبَ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ صَفْوَةَ خَلْقِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَوَرَثَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ سُبُلَ الضَّلَالِ وَالْبَاطِلِ وَالطَّلَاحِ، وَهُوَ طَرِيقٌ عِمَادُهُ النَّقْلُ الصَّحِيحُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ.
وَنَصَبَ لِطَرِيقِ الشَّرِّ دُعَاةً مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْفَاسِدِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، الَّذِينَ يَنْصِبُونَ شِرَاكَ الْإِضْلَالِ وَالْخَدِيعَةِ، فَيَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ وَالْأَخْلَاقِ الْوَضِيعَةِ، وَهُوَ طَرِيقٌ عُمْدَتُهُ الْهَوَى لَا الْهُدَى، وَقَائِدُهُ الشَّهْوَةُ وَالْمُتْعَةُ لَا الشَّرْعُ وَمَا وَضَعَهُ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا»، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ: ]وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ [الأنعام:153] [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
وَإِذاَ كَانَ طَرِيقُ الْخَيْرِ فِيهِ الْمَشَاقُّ وَالصِّعَابُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَشَاقُّ مُؤَقَّتَةٌ تَعْقُبُهَا لَذَّةٌ دَائِمَةٌ فِي جِنَانٍ عِذَابٍ، وَإِنَّ طَرِيقَ الشَّرِّ فِيهِ شَهْوَةٌ عَاجِلَةٌ وَلَذَّةٌ قَاتِلَةٌ؛ وَلَكِنْ تَعْقُبُهَا حَسْرَةٌ وَأَلَمٌ دَائِمٌ وَعَذَابٌ؛ فَلَذَّاتُ الْمَعَاصِي تَفْنَى وَيَبْقَى عِقَابُهَا، وَآلَاْمُ الطَّاعَاتِ تَذْهَبُ وَيَبْقَى ثَوَابُهَا.
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: كَمْ تَرَكَ الْعَاصِي لِنَفْسِهِ الْحَبْلَ عَلَى الْغَارِبِ، وَنَالَ مِنَ اللَّذَّاتِ وَعَبَّ مِنَ الرَّغَائِبِ!! وَلَكِنْ أَيْنَ تِلْكَ اللَّذَّةُ الَّتِي أَمْضَاهَا، وَتِيكَ الشَّهْوَةُ الَّتِي قَضَاهَا؟! لَقَدْ ذَهَبَتْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ، وَبَقِيَتْ آثَارُهَا.
فَكَمْ يَجِدُ الطَّائِعُ مِنْ مَشَاقِّ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ!، والْعَاصِي مِنْ لذَائِذِ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ! وَلَكِنْ مَا الَّذِي بَقِيَ لَنَا مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ اللَّذَائِذِ الَّتِي ذُقْنَاهَا، وَالْآلَامِ وَالْمَشَاقِّ الَّتِي حَمَلْنَاهَا؟! إِنَّهُ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (الْفُتُوَّةُ تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى). وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَـارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَـا لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِــنْ بَعْدِهَا النَّارُ
فَعَلَى الْعَاقِلِ: أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ الْخَيْرِ، وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ وَيُزَكِّيَهَا، وَيَتَجَنَّبَ طَرِيقَ الشَّرِّ وَالْمَعَاصِي وَيَتَّقِيَهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[ [القصص: 83].
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ. رَبَّنَا ارْفَعْ عَنَّا الْبَلَاءَ وَالْوَبَاءَ، وَالضَّرَّاءَ وَالْبَأْسَاءَ، وَأَدِمْ عَلَيْنَا النِّعَمَ، وَادْفَعْ عَنَّا النِّقَمَ، وَزَكِّ نُفُوسَنَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْغَاصِبِينَ، وَانْتَقِمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَرُدَّ الْأَقْصَى الْجَرِيحَ إِلَى حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِأَهْلِنَا فِي فِلَسْطِينَ نَاصِرًا وَمُعِينًا، احْقِنْ دِمَاءَهُمْ وَاحْفَظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَأَيِّدْهُمْ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة