خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 22 من ربيع الآخر 1446 هـ - الموافق 25 / 10 / 2024م
الْأَمَانُ فِي صِيَانَةِ اللِّسَانِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَ بَنِي الْإِنْسَانِ، وَمَيَّزَهُمْ عَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ وَالْبَيَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ: ]أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ[ [يس:77]، وَقَالَ تَعَالَى: ] أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ[ [البلد:8-9]، فَاللِّسَانُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ، وَلَطَائِفِ صُنْعِهِ الْبَدِيعَةِ، وَقَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ أَشْيَاءَ دَقِيقَةً، وَجَعَلَهُ تُرْجُمَانًا لِمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَمِيقَةِ، وَرَتَّبَ عَلَى الْمَنْطِقِ وَالْبَيَانِ جَزِيلَ الثَّوَابِ وَأَلِيمَ الْعِقَابِ؛ إِذْ لَا يَسْتَبِينُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا بِشَهَادَةِ اللِّسَانِ مَعَ تَوَاطُؤِ الْجَنَانِ؛ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلَا ]تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ[ [السجدة:16] حَتَّى بَلَغَ ]يَعْمَلُونَ[، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ].
أَيُّهَا الْمُبَارَكُونَ:
إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ عُنِيَ بِأَمْرِ اللِّسَانِ أَيَّمَا عِنَايَةٍ، فَحَثَّ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا عَلَى حِفْظِ اللِّسَانِ وَصِيَانَةِ الْمَنْطِقِ وَالْبَيَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[ [الإسراء:53] ، وَوَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ وَأَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ، بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ، وَمُجَانَبَةِ الْبَاطِلِ مِنَ الْقَوْلِ، فَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: ] قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[ [المؤمنون:1-3]، وَقَالَ تَعَالَى: ] وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[ [الفرقان:63]، فَحِفْظُ اللِّسَانِ عُنْوَانُ الْهِدَايَةِ، وَسَبِيلُ التَّوْفِيقِ وَالْوِلَايَةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، بَلْ حِفْظُهُ طَرِيقٌ لِنَيْلِ الْجِنَانِ، وَالتَّرَقِّي فِي مَنَازِلِ الرِّضَى وَالْغُفْرَانِ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ سَلَفَنَا الصَّالِحَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يَحْتَرِزُونَ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِمْ، وَيَرْقُبُونَ مَآلَاتِ كَلَامِهِمْ؛ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ! يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: (هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ)، هَذَا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ صَاحِبُ الْقَدَمِ الثَّابِتِ فِي الْإِسْلَامِ، وَخَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا شَيْءٌ أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ هَذَا اللِّسَانِ)، وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِرِسَالَةٍ لَمْ يَحْفَظْهَا غَيْرِي وَغَيْرُ مَكْحُولٍ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ)، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (أَطْوَلُ النَّاسِ شَقَاءً وَأَعْظَمُهُمْ بَلَاءً؛ مَنِ ابْتُلِيَ بِلِسَانٍ مُنْطَلِقٍ، وَفُؤَادٍ مُنْطَبِقٍ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ: أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ، وَأَنْ يُدْرِكَ أَنَّهُ أَعْظَمُ آلَةٍ يَدْفَعُ بِهَا الشَّيْطَانُ فِي اسْتَغْوَاءِ بَنِي الْإِنْسَانِ، وَاللِّسَانُ رَحْبُ الْمَيْدَانِ لَيْسَ لَهُ مَرَدٌّ، وَلَا لِمَجَالِهِ مُنْتَهًى وَحَدٌّ، فَيَنْبَغِي عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ آفَاتِهِ وَغَوَائِلِهِ، وَأَنْ يَحْتَرِسَ مِنْ مَصَايِدِهِ وَحَبَائِلِهِ؛ فَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ» [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ – أَيْ: تَذِلُّ وَتَخْضَعُ لَهُ- فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَقَدْ يُرْجَى لِجُرْحِ السَّيْفِ بُرْءٌ وَلَا بُرْءٌ لِمَا جَرَحَ اللِّسَانُ
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَــا الْتِئَـــامٌ وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُعِزِّ مَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ، وَمُذِلِّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَعَصَاهُ، فَتَحَ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ لِمَنْ أَرَادَ رِضَاهُ، وَأَغْلَقَ بَابَ السُّوءِ عَمَّنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَتَوَلَّاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُ.
)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران 102].
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ اللِّسَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَوَارِحِ أَثَرًا، وَأَشَدِّهَا خَطَرًا؛ فَالْعَبْدُ الْمُوَفَّقُ مَنْ مَلَكَ زِمَامَ لِسَانِهِ، وَعَرَضَ مَا أَرَادَ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ عَلَى جَنَانِهِ، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا تَكَلَّمَ وَانْدَفَعَ، وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ أَحْجَمَ وَامْتَنَعَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : ( لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ)، فَالْعَاقِلُ يَزِنُ كَلَامَهُ، وَيُمَحِّصُ بَيَانَهُ، فَالْكَلَامُ عِنْدَهُ شَحِيحٌ؛ لِمَا يَمْلِكُ مِنْ عَقْلٍ حَصِيفٍ، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ سَدِيدٍ؛ قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا تَظْهَرُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، بَلْ هَذَا كَثِيرٌ أَوْ غَالِبٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ).
أَيُّهَا الْمُبَارَكُونَ:
إِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ كَمَا تَكُونُ عَلَى مَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ، تَكُونُ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الْبَنَانُ، فَالتَّبِعَةُ عَظِيمَةٌ، وَالْمَسْؤُولِيَّةُ جَسِيمَةٌ؛ تُجَاهَ مَا يُدَوِّنُهُ الْمُدَوِّنُونَ وَيَكْتُبُهُ الْكَاتِبُونَ، فَلْيَحْذَرِ الْإِنْسَانُ مِمَّا تَكْتُبُهُ يَدَاهُ وَإِنِ اسْتَتَرَ خَلْفَ اسْمٍ مُسْتَعَارٍ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ وَالشَّرَرِ الْمُسْتَطِيرِ: أَنْ يَسْتَلِذَّ الْإِنْسَانُ الْوُقُوعَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَيَتَأَوَّلَ لِنَفْسِهِ تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً. وَأَعْرَاضُ الْمُسْلِمِينَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ؛ فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ، حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِمَنْ سَمِعَهُ يَقَعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ: (قَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى كَثْرَةِ عُيُوبِكَ بِمَا تُكْثِرُ مِنْ عُيُوبِ النَّاسِ). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ)!
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّـتِـينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة